بحث عن طرق التدريس الأأدب
صفحة 1 من اصل 1
بحث عن طرق التدريس الأأدب
الترجمة وطرق تدريس الادب
الترجمة وطرق تدريس الأدب
لورنس فينوتي
أ.د. أحمد رامز قطرية
قسم اللغة الإنكليزية ـ جامعة الملك سعود
ملخص البحث
يبحث الكاتب في المشكلات التـي تحيط بالترجمات إلى اللغة الإنكليزية من اللغات الأخرى ويوضح أن “الترجمة” مهمة بحيث لا يدري القارىء بالإنكليزية ماهية الاختلافات اللغوية والثقافية بين ما يقرأ والأصل بما يؤدي إلى وجود نرجسية حضارية وعدم اهتمام بالأجنبي. ويبحث الكاتب النتائج الحضارية والسياسية لتحجيم دور الترجمة في تدريس الأدب المترجم والممارسات التعليمية التـي يمكن تطويرها لمواجهة مشكلة الترجمة أو ما يمكن أن يسمى بالقيم المحلية التـي تدخل النص الأجنبي خلال عملية الترجمة. ويبين الكاتب أن موضوع الترجمة لا يطرح في المقررات التـي تستعمل النصوص الأجنبية رغم وجود فجوات تاريخية وثقافية بين النص الأصلي والنص المترجم كما يوجد في هذه النصوص “بقية” معاني وقيم تنقص أو تزيد على ما يوجد في النص الأصلي، لكن من المهم أن يعرف قارئ النص المترجم أن طرقه النقدية محدودة ومؤقتة وتوجد في تاريخ متغير في وضع ثقافي محدود ضمن منهج محدد وفي لغة محددة. ويقترح فينوتي تدريس “البقية” كطريقة فعالة لتعليم مشكلة الترجمة ويستخدم نص أيون لأفلاطون ونصاً من هومر لتوضيح مشكلة “البقية” وكيفية تدريسها.
تتبع الأفكار التـي سترد هنا من المشكلات التـي تحيط بالترجمات إلى اللغة الإنكليزية على المستوى الدولي”لتجارة الأفكار”. فلا تزال الإنجليزية اللغة التـي يترجم منها أكثر من غيرها من اللغات في العالم، وهي واحدة من أقل اللغات التـي يترجم إليها. فالترجمة التـي تصدر من الناشرين الإنجليز والأمريكان تمثل (%2) اثنين بالمائة من الإنتاج السنوي لهؤلاء الناشرين أو ما يقارب 1200 إلى 1400 كتاب؛ بينما يختلف الحال في كثير من الدول الأجنبية الصغيرة والكبيرة الشرقية منها والغربية حيث إن النسبة أعلى بدرجة واضحة: (%6) ستة في المائة في اليابان (حوالي 2500 كتاب) (%10) عشرة بالمائة في فرنسا (4000 كتاب)، (%14)أربعة عشر في المائة في المجر (1200 كتاب)؛ (%15) خمسة عشر بالمائة في ألمانيا (8000 كتاب)؛ (%25) خمسة وعشرين في المائة في إيطاليا (3000 كتاب) (المصدر: غرانيس 1993 Grannis). وهذا التفاوت في نسب الترجمات يؤكد أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تتمتعان بهيمنة على الدول الأجنبية تفوق حدود السياسة والاقتصاد لتمتد إلى الهيمنة الثقافية.
بالإضافة إلى هذا فالأفضلية الدولية للإنجليزية تتماشى مع هامشية الترجمة في الحضارة الإنكليزية ـ الأمريكية في الوقت الحاضر. فبينما يُتداول الأدبان الأمريكي والإنجليزي في كثير من اللغات الأجنبية ويكلف ذلك أموالاً كثيرة للناشرين الأجانب تحظى ترجمة الآداب الأجنبية إلى الإنجليزية بتمويل ودعاية قليلين. فالدخل من الترجمة قليل، وتقييمها غير موجود وفي أغلب الأحيان تبقى الترجمات غير مرئية لقراءة اللغة الإنجليزية. فقوة الثقافة الإنجليزية، الأمريكية في الخارج حدت من انتشار الثقافات الأجنبية في أمريكا وإنجلترا وأنقصت بذلك فرصاً لمواطني هذين البلدين في التفكير في ماهية الاختلافات اللغوية والثقافية. فمن الواضح أنه لا توجد لغة يمكن لها أن تنسى تماماً وجود خطاب مختلف ولهجات متعددة، أو نظماً ومفردات ثقافية مختلفة. وتتضح هذه الحقيقة عن طريق وجود أشكال متعددة من اللغة الإنجليزية، وهذا لا يكمن فقط في الفروق في الاستعمالات بين الإنجليزية البريطانية والأمريكية فحسب، ولكن في تعدد الأشكال اللغوية والثقافية داخل الدول الناطقة بالإنجليزية أيضاً. ورغم هذا فإن الخطر الذي يطرحه الموقع الهامشي للترجمة يعني وجود نرجسية حضارية وعدم اهتمام بالأجنبي، وهذا شيء لابد أن يفقر الحضارة الإنجليزية، الأمريكية وينمي قيماً وسياسات تبنى على قاعدة من عدم التساوي والاستغلال. ويمتد تهميش الترجمة حتـى إلى المؤسسات التعليمية حيث تظهر في تناقضات مزعجة: فهناك اعتماد كلي على النصوص المترجمة في المناهج وأعمال البحث، بالإضافة إلى وجود اتجاه عام في التدريس ولدى دور النشر لتجاهل موقع النصوص المترجمة كترجمة ومعاملتها كأنها نصوص كتبت في اللغة المترجم إليها. ورغم أن الترجمة أخذت مكانها بشكل فعال منذ سبعينات القرن العشرين كحقل أكاديمي وكمجالٍ صُرف فيه المال في مجال النشر الأكاديمي جعلها جزءاً من المؤسسة الأكاديمية كما حدث مع برامج حلقات البحث في الكتابة الإبداعية والبرامج المخصصة لإعطاء الشهادات والبرامج الأكاديمية في نظرية الترجمة والنقد، وسلسلة الكتب المخصصة للترجمات الأدبية أو للدراسات الترجمة، رغم كل هذا الاعتراف المتزايد تبقى الحقيقة واضحة وهي ان الترجمة لا تزال محجمة في مجال تدريس الأدب المترجم. وتكمن أهداف البحث في استكشاف سؤالين رئيسيين يثيرهما هذا التحجيم: أولهما النتيجة الحضارية والسياسية لهذا التحجيم أو ما هي أنواع المعرفة أو الممارسات التـي يمكن أن تصبح حقيقة أو تختفي بسبب هذه السياسة؟ وما هي الممارسات التعليمية التـي يمكن تطويرها لمواجهة مسألة الترجمة أو ما يسمى “بقية” القيم المحلية المدخلة في النص الأجنبي خلال عملية الترجمة؟
ورغم أن الترجمة تستعمل بشكلٍ لا يمكن تجنبه في الكليات والجامعات، فالغريب هو التغييب الذي يتم “للبقية” وهو شيء منتشرٌ على نطاق واسع. فمناهج المستوى الجامعي الأول في تخصصات الإنسانيات أو في المواد المبينة على “الكتب الأساس” أو النصوص التـي أخذت موقعها في صلب التراث الحضاري الغربي تعتمد بشكلٍ رئيس على ترجمات إنجليزية من اللغات القديمة أو الحديثة. وبعد تلك المواد التـي تطرح في السنة الأولى أو الثانية تصبح الترجمات شيئاً لا يمكن الاستغناء عنه في مناهج المرحلة الجامعية الأولى والمرحلة التـي تليها في كثير من الاختصاصات كالأدب المقارن والفلسفة والتاريخ والعلوم السياسية وعلم الآثار والاجتماع. وقد استجابت بعض أقسام اللغات الأجنبية لمشكلة انخفاض أعداد طلابها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية عن طريق طرح مواد عن الآداب الأجنبية بترجمات إنجليزية فقط. وخلال العشرين السنة الماضية مكنّت الترجمة من تطوير النظرية الثقافية مما غير بشكلٍ جذري النقد الأدبي الأنجلو - أمريكي طارحاً اتجاهات جديدة تمزج الثقافة بقضايا اجتماعية وسياسية ومطورة اتجاهات أخرى تجمع بين أنواع من الدراسات كالدراسات الثقافية. وتهتم هذه المفاهيم والتغييرات المنهجية في حالات كثيرة بمسألة الاختلاف اللغوي والثقافي التـي تقع في صلب موضوع الترجمة ومنها مسألة حضور العقائد العرقية والجنسية في الإنتاج الثقافي ومسألة تطوير النظرية الخاصة بفترة ما بعد الاستعمار لدراسة الاستعمار والثقافات التـي خضعت له طوال تاريخ العالم، ومسألة ظهور التعددية الثقافية لمواجهة الموروث الثقافي الأوروبي الرسمي وخاصة في وجوده في مواد الكتب الأساس. لكن التدريس والبحث بشكل عام تجاهلا اعتمادها على الكتب المترجمة، ولم يوجه أي اهتمام لبعد الترجمات المستعملة في التدريس والمنشورة في المؤسسات الأكاديمية عن النص الأجنبي حيث يقف خطاب المترجم للإنجليزية بين النص الأصلي والباحث.
ويمكن قياس مدى انتشار هذا التعميم من طرائق تدريس الأدب العالمي وهي سلسلة نشرتها الجمعية الأمريكية للغات الحديثة (MLA) والتي ظهرت أولاها عام 1980 وبلغت حتـى الان أكثر من خمسين مجلداً. وتجمع هذه السلسلة معلومات بييلوغرافية وطرقاً تعليمية لنصوص أدبية معروفة منها القديم ومنها الحديث ومن ضمنها نصوص كتبت بلغات أجنبية. وتمثل هذه الطرق عينات تطبيقة واسعة الانتشار في الولايات المتحدة وكندا. ويقول المحرر العام للسلسلة في المقدمة العامة “يبدأ إعداد كل مجلد بمسح عام لأراء المدرسين وهذا ما يجعلنا قاردين على أن نضع في المجلد فلسفات وطرقاًَ وأفكاراً ومنطلقات نظرية لعشرات المدرسين المخضرمين”. ومن بين نصوص اللغات الأجنبية المقدمة في هذه السلسلة نص دانتي الكوميديا الألهية 1982 ونص سيرفانتيس دون كيشوت 1984 ونص كامو الطاعون 1985 ونص إبسن بيت الدمية 1984، والإلياذة والأوديسة لهومر 1984 وفاوست لغوته 1987 وكانديدا لفولتير 1987 والعهد القديم 1989 ونص غارسيا ماركيز مئة عام من العزلة 1990 وكتاب مونتين مقالات 1994. ويحتوي كل مجلد من المجلدات المخصصة للنصوص الأجنبية عل فصل ببيليوغرافي يحمل عنوان “المادة” يناقش الترجمات الموجودة للنص لتقييمها على أسس عملية: الدقة، تواصلها مع الطلاب المعاصرين، سهولة الحصول عليها في السوق، وتقبلها من الأشخاص الذين أجابوا عن الاستبانة. لكن في الجزء المخصص للطرق التربوية والمسمى “طرق معالجة النص” لا تطرح الترجمة كموضوع النقاش إلا فيما ندر رغم أن كثيراً من المقالات تشير إلى النصوص المترجمة إلى اللغة الإنكليزية والمستعملة في التدريس.
فعلى سبيل المثال لنأخذ المقالة الموجود في المجلد المخصص لدانتي تحت عنوان “تدريس كتاب دانتي الكوميديا الإلهية عن طريق نص مترجم”. وتصف هذه المقالة مادة دراسية تطرح لطلاب المرحلة الجامعية الأولى في الأدب الإيطالي في العصور الوسطى تقدمها جامعة تورنتو. لكن رغم هذا العنوان فلا توجد إلا فقرة واحدة مخصصة للحديث عن الترجمة في هذه المقالة التـي تأتي في سبع صفحات. فبعد أن توضح الفقرة أن المشكلة الأساس التـي تواجه قراء دانتي نحو أواخر القرن العشرين هي مشكلة البعد الحضاري يُضيف المدرس كاتب المقالة ما يلي:
هناك حاجز آخر بين الطلاب ودانتي في هذه المادة: اللغة فنحن نقرأ الكوميديا الإلهية عن طريق الترجمة ومهما كانت لغة الترجمة جيدة فهي لن تكون كلغة دانتي. فلن يحلم أي مترجم أبداً أن يعيد صياغة سلاسة ووقع شعر دانتي، وذلك يعود ببساطة إلى الاختلافات الجوهرية بين الإنجليزية والإيطالية. وهناك خطر آخر في الترجمة. في النص الأصلي غموض في أماكن مختلفة لا يستطيع المترجم أن يعيد صياغتها. فعلى المترجم/المترجمة أن يتخذ موقفاً نقدياً قبل معالجة أي نص صعب. وهكذا فإن كل ترجمة للكوميديا الإلهية مليئة بتفسيرات المترجم للنص الأصلي. وهكذا تحذف بعض التفسيرات الممكنة في لغة دانتي ويخلق غموض في أماكن أخرى ربما لم يكن موجوداً في الأصل. ولا تستطيع حتـى الترجمات النثرية تفادي هذا النوع من التحريف في محاولاتها لإعطاء المعنى الأصلي وبذلك تخرب بصورة كاملة روح النص. هذا ما يدفعني لتفضيل ترجمة شعرية. ففي رأيي أنه من المحبذ أن يضحي بقليل من الدقة في الترجمة للحصول على نكهة من شعر دانتي. واستعمل ترجمة دورثي سييرز للكوميديا الإلهية رغم خلوها من العيوب. (إينوتشي155).
وهنا تنتهي الفقرة وهي ترينا فهم المدرس الواعي لعملية فقد صفات ثقافية ولغوية من النص الأجنبي في النص المترجم الذي يضيف في الوقت نفسه صفات خاصة من ثقافة اللغة الهدف. لكن إشارة المدرس العابرة لترجمة دوروثي سييرز يوضح لنا أن هذا الفهم لا ينعكس في ما يحدث في الصف بأي طريقة منظمة أو مشروحة. فالمدرس يؤكد أن “هدف هذه المادة ينقسم إلى شقين: الأول مساعدة الطلاب لفهم عالم دانتي الشعري في سياق ثقافة العصور الوسطى، والثاني توعية الطلاب بمراحل النقد نفسه” 155 لكن ما يبدو ناقصاً هو وجود وعي ذي تأثير فهناك على الأقل مرحلتان نقديتان مختلفتان تعملان معاً: تلك التـي تعود إلى المترجم أي التفسير الذي تمثله نسخة سييرز وتلك التـي تعود إلى المدرس التـي تمثلها محاولته لإعادة بناء “عالم دانتي الشعري” عن طريق “عشر محاضرات تحضيرية مخصصة لتغطية الفجوات التاريخية والثقافية بيننا وبين دانتي ولإنشاء أبعاد نقدية تمكننا من تفسير القصيدة من خلالها”. 155
تكمن المشكلة في عدم استطاعة الترجمة أو المحاضرة “سد” هذه “الثغرات”. فرغم محاولة المترجم إزالة كل الحواجز بين الطالب والنص الإيطالي فهو يعتقد (وبشكل يتعارض مع ما يفعله) أن “الكوميديا الإلهية لا تحتاج إلى وسيط الآن أكثر من أي وقت مضى، إذا أردنا أن نتفادى القراءات التبسيطية والمتعارضة مع الوقت التاريخي الذي كتب فيه النص” 155 وهذا التدخل يجعل من المحتم وجود حاجز آخر: فهي تعكس الدراسات النقدية الحديثة لقصيدة دانتي وحضارة إيطاليا في العصور الوسطى، أي أخر ما كتب عن الموضوع “أو الرأي النقدي الحديث، على الأقل في أمريكا الشمالية” 156. فالقراءات في هذه المادة لا يمكنها تفادي التعارضات الناتجة عن الاختلاف مع زمن النص الأصلي و”التشويهات” الحاصلة أي “الغموض” الذي قد لا يوجد في النص الأصلي لأن هذه القرارات مبينة على ترجمة جرت في إنجلترا ونشرت في الأربعينات من القرن العشرين عبر سلسلة من الكتب الموجهة لعامة الناس، (كلاسيكيات بنغوين) والتي استخدمت في صفوف الجامعات الكندية في أواخر السبعينات من القرن العشرين.
فعندما لا يقوم المدرس بتعليم الطلاب قيمة النص يصبح المدرس مثالاً لما قاله جاك دريدا في مقولته أن الترجمة “مشكلة سياسية، مؤسساتية جامعية: فهي كالتدريس في شكله التقليدي (وربما في كل أشكاله) لها وضعها الأمثل الذي يأخذ شكلاً يُغيب ملامح اللغة عن طريق الترجمة المتكررة” (دريدا، 93، 94). وطرائق التدريس الحالية تتبنى ضمنياً فكرة الترجمة على أنها وسيلة تواصل لا تأثير للغة عليها رغم أنه لا يمكن وجود ترجمة دون لغة، كما يقول دريدا عن وسيلة التواصل هذه إنه “يحكمها النموذج الكلاسيكي الذي يقول إنها لا تمتلك المقدرة على نقل الصوت أو المقدرة على تقنين المعاني المتعددة” 93. لكن التفكير في الترجمة كعملية “نشر” أي إطلاق للمعاني المختلفة التـي تنتج عن تغيير في اللغات سيثير مشكلة سياسية: لأن هذا يطرح للمساءلة موضوع توزيع السلطة في الصف بسبب فضحه للأوضاع اللغوية الثقافية التـي تعقد تفسيرات المدرس. فدراسة المعاني التـي تضعها ترجمة سييرز الإنجليزية لنص دانتي الإيطالي سيضعف من السلطة التفسيرية للمدرس الذي يُدرس على أساس يقول إن قراءاته صحيحية أو كافية للنص الإيطالي رغم أنه قد تشبع بالدراسات الأكاديمية الحديثة واستعمالات الطلاب للترجمة. ورغم أن مقالة المدرس الآنف الذكر تكشف عن إدراكه وجود تواصل غير متوقع للمعاني في عملية الترجمة وأن نسبة النقصان أو الزيادة تحدث بين نصوص اللغتين الأصل والهدف فإنه في تدريسه يفترض أن تغلب على هذه النسبة وأن تفسيراته هي في الواقع شفافة باللغة الإنجليزية للنص الإيطالي.
ولكن ما تم حفظه هنا هو السلطة: سلطة تفسيرات المدرس وسلطة اللغة التـي استعملت أي الإنجليزية. فكما يلاحظ دريدا فإن الفكرة السائدة في المجتمع الجامعي عما يمكن أن يترجم يحيد اللغة الوطنية (94) أي أن لغة التدريس ليست لغة محايدة في عرضها لنصوص أجنبية لكنها محلية ومرتبطة بالأقطار المتكامة بالإنجليزية. وتغييب موضوع الترجمة في الصف يخفي دون شك القيم الحضارية الإنجليزية والأمريكية المغروسة في النص الأجنبي وفي الوقت نفسه يعامل اللغة الإنجليزية وكأنها وعاء شفاف يحمل الحقيقة الخالصة وهذا يشجع نظرة محلية لغوية ذات آفاق ضيقة لدرجة أنه يمكن القول إن هذا يشجع وجود موقف ثقافي قومي. ويحدث هذا في الغالب في مراد الإنسانيات فمن الممكن أن تستخدم ترجمة “ثقة” النص الأجنبي في خدمة أهداف محلية. فالدفاع عن الكتب العظمى على سبيل المثال افترض في كثير من الأحيان تواصلاً بين هذه الكتب والثقافة الوطنية البريطانية أو الأمريكية وتجاهل في الوقت نفسه فروقاً ثقافية وتاريخية هامة من ضمنها فروق أتت عن طريق الترجمة. فتقرير وليام بنيت الذي أثار ضجة حول تدريس الإنسانيات في الولايات المتحدة يمكن أن يأخذ كمثال: النصوص الثقة للأدب والفلسفة الأوروبية يجب أن تُشكل “الجزء الأساسي من مناهج الجامعات الأمريكية “على حد قوله “لأن الأمريكيين جزء من نتاج الحضارة الغربية”. ورغم أن الطلاب في المواد الأساسية لا يستطيعون قراءة اللغات الغربية التـي كتبت بها أكثر هذه النصوص (بينت 21). ويوضح جون جيلوري John Guillory أن ترجمة الأعمال الكلاسيكية للغة المترجم العادية يعد تدعيماً مؤسساتياً قوياً للتتابع الثقافي الخيالي المزعوم فهي تؤكد خطط المحليين بالسماح لهم بمصادرة نصوص لغة أحنبية (جيلوري43 ). وعندما يُعتم على موضوع الترجمة أثناء تدريس النصوص المترجمة تعطى لغة الترجمة وثقافتها قيمة أعلى وتبدو وكأنها تعبر عن حقيقة النص الأجنبي بينا هي في الواقه إعادة بناء لصورة كُيفت لتلائم ما يفهم محلياً وما له أهمية محلية.
وقد يساعد منهج تعليمي يشمل أدباً مترجماً الطلاب على تعلم القدرة على نقد النفس ونقد فكر ثقافي متحيز لنفسه ضد غيره عن طريق توجيه الانتباه إلى أهمية المكان في النصوص وفي تفسيراتها فالترجمات مفهومة دائماً (إن لم تكن مصنوعة خصيصاً لهم) من جماعات ثقافية معينة في حقبة تاريخية معينة. وتغييب الترجمة يجعل من الأفكار والأشكال تبدو وكأنها لا تعود إلى مكان معين بل إنها فلتت من التاريخ وسمت على الفروق اللغوية والثقافية التـي أوجبت ترجمة هذه النصوص في بادىء الأمر بل وتفسيرها في داخل الصفوف المدرسية أيضاً. فالجهد الذي يبذل لإعادة بناء الحقبة التاريخية التـي أنتج فيها النص الأجنبي، ولخلق البيئة التاريخية للتفسير لا تعوض عن فقد التاريخ كعملية معقدة بل تزيد من تعقيدها: فيشجع الطلاب لرؤية تفسيراتهم التاريخية وكأنها موجودة في النصوص عوض أن تكون قد أوجدت عن طريق خطابات الترجمة وطرق النقد التـي تعود إلى القيم الحضارية لأوقات مختلفة لاحقة. ويتولد لذلك عند الطلاب مفهوم لتفسير الحقيقة وكأنها تنبع عن متابعة كافية للنص متجاهلين الواقع أي أنهم يخلقون هذه الحقيقة عن طريق اختياراتهم وتوليفهم للشواهد النصية والبحث التاريخي وبهذا تكون تفسيراتهم وتأخذ شكلها عن طريق الضوابط اللغوية والحضارية، التـي تتضمن اعتمادهم على الترجمة. فإن علم الطلاب أن نصاً ما نص مترجم واستخدمت هذه المعرفة ضمن عملية التفسير الصفية فيمكن لهذا أن يعلم الطلاب أن طرقهم النقدية محدودة ومؤقتة وتوجد في تاريخ متغير في وضع ثقافي محدد ضمن منهج معين وفي لغة محددة. وبمعرفتهم بوجود هذه الحدود تبدو لهم الاحتمالات المختلفة لفهم النص الأجنبي والطرق المختلفة في فهم موقعهم في تاريخهم الحضاري.
ومثل هذه الطرائق التدريسية ستحتم بالطبع مراجعة المواد والمناهج والكتب الثقة والأنماط الدراسية. على كل حال فإن الترجمات تصبح جزءاً من القراءات المطلوبة لأن النصوص الأجنبية الأصلية تعتبر ذات قيمة عالية وهذا قد لا يعود لقيمتها ذاتها رغم أن بعض الترجمات تختار دون شك قبل ترجمات أخرى حسب نظم وأحكام مختلفة. فالكلام عن موضوع الترجمة في الصف التدريسي يجعل من هذا التقييم معضلاً لأنه يحتاج إلى نظرة ذات تركيزين مختلفين. فيجب أن يأخذ بعين الاعتبار النص الأجنبي وحضارته بالإضافة إلى نص وحضارة الترجمة. ومن هنا فعلى المدرس أن يستبدل نصوصاً ثقة وأن يواجه مفهوم ترجمات ثقة, وعليه أن يراجع المناهج ويعدل نسبة استخدام
بالتوفيق والنجاح
الترجمة وطرق تدريس الأدب
لورنس فينوتي
أ.د. أحمد رامز قطرية
قسم اللغة الإنكليزية ـ جامعة الملك سعود
ملخص البحث
يبحث الكاتب في المشكلات التـي تحيط بالترجمات إلى اللغة الإنكليزية من اللغات الأخرى ويوضح أن “الترجمة” مهمة بحيث لا يدري القارىء بالإنكليزية ماهية الاختلافات اللغوية والثقافية بين ما يقرأ والأصل بما يؤدي إلى وجود نرجسية حضارية وعدم اهتمام بالأجنبي. ويبحث الكاتب النتائج الحضارية والسياسية لتحجيم دور الترجمة في تدريس الأدب المترجم والممارسات التعليمية التـي يمكن تطويرها لمواجهة مشكلة الترجمة أو ما يمكن أن يسمى بالقيم المحلية التـي تدخل النص الأجنبي خلال عملية الترجمة. ويبين الكاتب أن موضوع الترجمة لا يطرح في المقررات التـي تستعمل النصوص الأجنبية رغم وجود فجوات تاريخية وثقافية بين النص الأصلي والنص المترجم كما يوجد في هذه النصوص “بقية” معاني وقيم تنقص أو تزيد على ما يوجد في النص الأصلي، لكن من المهم أن يعرف قارئ النص المترجم أن طرقه النقدية محدودة ومؤقتة وتوجد في تاريخ متغير في وضع ثقافي محدود ضمن منهج محدد وفي لغة محددة. ويقترح فينوتي تدريس “البقية” كطريقة فعالة لتعليم مشكلة الترجمة ويستخدم نص أيون لأفلاطون ونصاً من هومر لتوضيح مشكلة “البقية” وكيفية تدريسها.
تتبع الأفكار التـي سترد هنا من المشكلات التـي تحيط بالترجمات إلى اللغة الإنكليزية على المستوى الدولي”لتجارة الأفكار”. فلا تزال الإنجليزية اللغة التـي يترجم منها أكثر من غيرها من اللغات في العالم، وهي واحدة من أقل اللغات التـي يترجم إليها. فالترجمة التـي تصدر من الناشرين الإنجليز والأمريكان تمثل (%2) اثنين بالمائة من الإنتاج السنوي لهؤلاء الناشرين أو ما يقارب 1200 إلى 1400 كتاب؛ بينما يختلف الحال في كثير من الدول الأجنبية الصغيرة والكبيرة الشرقية منها والغربية حيث إن النسبة أعلى بدرجة واضحة: (%6) ستة في المائة في اليابان (حوالي 2500 كتاب) (%10) عشرة بالمائة في فرنسا (4000 كتاب)، (%14)أربعة عشر في المائة في المجر (1200 كتاب)؛ (%15) خمسة عشر بالمائة في ألمانيا (8000 كتاب)؛ (%25) خمسة وعشرين في المائة في إيطاليا (3000 كتاب) (المصدر: غرانيس 1993 Grannis). وهذا التفاوت في نسب الترجمات يؤكد أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تتمتعان بهيمنة على الدول الأجنبية تفوق حدود السياسة والاقتصاد لتمتد إلى الهيمنة الثقافية.
بالإضافة إلى هذا فالأفضلية الدولية للإنجليزية تتماشى مع هامشية الترجمة في الحضارة الإنكليزية ـ الأمريكية في الوقت الحاضر. فبينما يُتداول الأدبان الأمريكي والإنجليزي في كثير من اللغات الأجنبية ويكلف ذلك أموالاً كثيرة للناشرين الأجانب تحظى ترجمة الآداب الأجنبية إلى الإنجليزية بتمويل ودعاية قليلين. فالدخل من الترجمة قليل، وتقييمها غير موجود وفي أغلب الأحيان تبقى الترجمات غير مرئية لقراءة اللغة الإنجليزية. فقوة الثقافة الإنجليزية، الأمريكية في الخارج حدت من انتشار الثقافات الأجنبية في أمريكا وإنجلترا وأنقصت بذلك فرصاً لمواطني هذين البلدين في التفكير في ماهية الاختلافات اللغوية والثقافية. فمن الواضح أنه لا توجد لغة يمكن لها أن تنسى تماماً وجود خطاب مختلف ولهجات متعددة، أو نظماً ومفردات ثقافية مختلفة. وتتضح هذه الحقيقة عن طريق وجود أشكال متعددة من اللغة الإنجليزية، وهذا لا يكمن فقط في الفروق في الاستعمالات بين الإنجليزية البريطانية والأمريكية فحسب، ولكن في تعدد الأشكال اللغوية والثقافية داخل الدول الناطقة بالإنجليزية أيضاً. ورغم هذا فإن الخطر الذي يطرحه الموقع الهامشي للترجمة يعني وجود نرجسية حضارية وعدم اهتمام بالأجنبي، وهذا شيء لابد أن يفقر الحضارة الإنجليزية، الأمريكية وينمي قيماً وسياسات تبنى على قاعدة من عدم التساوي والاستغلال. ويمتد تهميش الترجمة حتـى إلى المؤسسات التعليمية حيث تظهر في تناقضات مزعجة: فهناك اعتماد كلي على النصوص المترجمة في المناهج وأعمال البحث، بالإضافة إلى وجود اتجاه عام في التدريس ولدى دور النشر لتجاهل موقع النصوص المترجمة كترجمة ومعاملتها كأنها نصوص كتبت في اللغة المترجم إليها. ورغم أن الترجمة أخذت مكانها بشكل فعال منذ سبعينات القرن العشرين كحقل أكاديمي وكمجالٍ صُرف فيه المال في مجال النشر الأكاديمي جعلها جزءاً من المؤسسة الأكاديمية كما حدث مع برامج حلقات البحث في الكتابة الإبداعية والبرامج المخصصة لإعطاء الشهادات والبرامج الأكاديمية في نظرية الترجمة والنقد، وسلسلة الكتب المخصصة للترجمات الأدبية أو للدراسات الترجمة، رغم كل هذا الاعتراف المتزايد تبقى الحقيقة واضحة وهي ان الترجمة لا تزال محجمة في مجال تدريس الأدب المترجم. وتكمن أهداف البحث في استكشاف سؤالين رئيسيين يثيرهما هذا التحجيم: أولهما النتيجة الحضارية والسياسية لهذا التحجيم أو ما هي أنواع المعرفة أو الممارسات التـي يمكن أن تصبح حقيقة أو تختفي بسبب هذه السياسة؟ وما هي الممارسات التعليمية التـي يمكن تطويرها لمواجهة مسألة الترجمة أو ما يسمى “بقية” القيم المحلية المدخلة في النص الأجنبي خلال عملية الترجمة؟
ورغم أن الترجمة تستعمل بشكلٍ لا يمكن تجنبه في الكليات والجامعات، فالغريب هو التغييب الذي يتم “للبقية” وهو شيء منتشرٌ على نطاق واسع. فمناهج المستوى الجامعي الأول في تخصصات الإنسانيات أو في المواد المبينة على “الكتب الأساس” أو النصوص التـي أخذت موقعها في صلب التراث الحضاري الغربي تعتمد بشكلٍ رئيس على ترجمات إنجليزية من اللغات القديمة أو الحديثة. وبعد تلك المواد التـي تطرح في السنة الأولى أو الثانية تصبح الترجمات شيئاً لا يمكن الاستغناء عنه في مناهج المرحلة الجامعية الأولى والمرحلة التـي تليها في كثير من الاختصاصات كالأدب المقارن والفلسفة والتاريخ والعلوم السياسية وعلم الآثار والاجتماع. وقد استجابت بعض أقسام اللغات الأجنبية لمشكلة انخفاض أعداد طلابها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية عن طريق طرح مواد عن الآداب الأجنبية بترجمات إنجليزية فقط. وخلال العشرين السنة الماضية مكنّت الترجمة من تطوير النظرية الثقافية مما غير بشكلٍ جذري النقد الأدبي الأنجلو - أمريكي طارحاً اتجاهات جديدة تمزج الثقافة بقضايا اجتماعية وسياسية ومطورة اتجاهات أخرى تجمع بين أنواع من الدراسات كالدراسات الثقافية. وتهتم هذه المفاهيم والتغييرات المنهجية في حالات كثيرة بمسألة الاختلاف اللغوي والثقافي التـي تقع في صلب موضوع الترجمة ومنها مسألة حضور العقائد العرقية والجنسية في الإنتاج الثقافي ومسألة تطوير النظرية الخاصة بفترة ما بعد الاستعمار لدراسة الاستعمار والثقافات التـي خضعت له طوال تاريخ العالم، ومسألة ظهور التعددية الثقافية لمواجهة الموروث الثقافي الأوروبي الرسمي وخاصة في وجوده في مواد الكتب الأساس. لكن التدريس والبحث بشكل عام تجاهلا اعتمادها على الكتب المترجمة، ولم يوجه أي اهتمام لبعد الترجمات المستعملة في التدريس والمنشورة في المؤسسات الأكاديمية عن النص الأجنبي حيث يقف خطاب المترجم للإنجليزية بين النص الأصلي والباحث.
ويمكن قياس مدى انتشار هذا التعميم من طرائق تدريس الأدب العالمي وهي سلسلة نشرتها الجمعية الأمريكية للغات الحديثة (MLA) والتي ظهرت أولاها عام 1980 وبلغت حتـى الان أكثر من خمسين مجلداً. وتجمع هذه السلسلة معلومات بييلوغرافية وطرقاً تعليمية لنصوص أدبية معروفة منها القديم ومنها الحديث ومن ضمنها نصوص كتبت بلغات أجنبية. وتمثل هذه الطرق عينات تطبيقة واسعة الانتشار في الولايات المتحدة وكندا. ويقول المحرر العام للسلسلة في المقدمة العامة “يبدأ إعداد كل مجلد بمسح عام لأراء المدرسين وهذا ما يجعلنا قاردين على أن نضع في المجلد فلسفات وطرقاًَ وأفكاراً ومنطلقات نظرية لعشرات المدرسين المخضرمين”. ومن بين نصوص اللغات الأجنبية المقدمة في هذه السلسلة نص دانتي الكوميديا الألهية 1982 ونص سيرفانتيس دون كيشوت 1984 ونص كامو الطاعون 1985 ونص إبسن بيت الدمية 1984، والإلياذة والأوديسة لهومر 1984 وفاوست لغوته 1987 وكانديدا لفولتير 1987 والعهد القديم 1989 ونص غارسيا ماركيز مئة عام من العزلة 1990 وكتاب مونتين مقالات 1994. ويحتوي كل مجلد من المجلدات المخصصة للنصوص الأجنبية عل فصل ببيليوغرافي يحمل عنوان “المادة” يناقش الترجمات الموجودة للنص لتقييمها على أسس عملية: الدقة، تواصلها مع الطلاب المعاصرين، سهولة الحصول عليها في السوق، وتقبلها من الأشخاص الذين أجابوا عن الاستبانة. لكن في الجزء المخصص للطرق التربوية والمسمى “طرق معالجة النص” لا تطرح الترجمة كموضوع النقاش إلا فيما ندر رغم أن كثيراً من المقالات تشير إلى النصوص المترجمة إلى اللغة الإنكليزية والمستعملة في التدريس.
فعلى سبيل المثال لنأخذ المقالة الموجود في المجلد المخصص لدانتي تحت عنوان “تدريس كتاب دانتي الكوميديا الإلهية عن طريق نص مترجم”. وتصف هذه المقالة مادة دراسية تطرح لطلاب المرحلة الجامعية الأولى في الأدب الإيطالي في العصور الوسطى تقدمها جامعة تورنتو. لكن رغم هذا العنوان فلا توجد إلا فقرة واحدة مخصصة للحديث عن الترجمة في هذه المقالة التـي تأتي في سبع صفحات. فبعد أن توضح الفقرة أن المشكلة الأساس التـي تواجه قراء دانتي نحو أواخر القرن العشرين هي مشكلة البعد الحضاري يُضيف المدرس كاتب المقالة ما يلي:
هناك حاجز آخر بين الطلاب ودانتي في هذه المادة: اللغة فنحن نقرأ الكوميديا الإلهية عن طريق الترجمة ومهما كانت لغة الترجمة جيدة فهي لن تكون كلغة دانتي. فلن يحلم أي مترجم أبداً أن يعيد صياغة سلاسة ووقع شعر دانتي، وذلك يعود ببساطة إلى الاختلافات الجوهرية بين الإنجليزية والإيطالية. وهناك خطر آخر في الترجمة. في النص الأصلي غموض في أماكن مختلفة لا يستطيع المترجم أن يعيد صياغتها. فعلى المترجم/المترجمة أن يتخذ موقفاً نقدياً قبل معالجة أي نص صعب. وهكذا فإن كل ترجمة للكوميديا الإلهية مليئة بتفسيرات المترجم للنص الأصلي. وهكذا تحذف بعض التفسيرات الممكنة في لغة دانتي ويخلق غموض في أماكن أخرى ربما لم يكن موجوداً في الأصل. ولا تستطيع حتـى الترجمات النثرية تفادي هذا النوع من التحريف في محاولاتها لإعطاء المعنى الأصلي وبذلك تخرب بصورة كاملة روح النص. هذا ما يدفعني لتفضيل ترجمة شعرية. ففي رأيي أنه من المحبذ أن يضحي بقليل من الدقة في الترجمة للحصول على نكهة من شعر دانتي. واستعمل ترجمة دورثي سييرز للكوميديا الإلهية رغم خلوها من العيوب. (إينوتشي155).
وهنا تنتهي الفقرة وهي ترينا فهم المدرس الواعي لعملية فقد صفات ثقافية ولغوية من النص الأجنبي في النص المترجم الذي يضيف في الوقت نفسه صفات خاصة من ثقافة اللغة الهدف. لكن إشارة المدرس العابرة لترجمة دوروثي سييرز يوضح لنا أن هذا الفهم لا ينعكس في ما يحدث في الصف بأي طريقة منظمة أو مشروحة. فالمدرس يؤكد أن “هدف هذه المادة ينقسم إلى شقين: الأول مساعدة الطلاب لفهم عالم دانتي الشعري في سياق ثقافة العصور الوسطى، والثاني توعية الطلاب بمراحل النقد نفسه” 155 لكن ما يبدو ناقصاً هو وجود وعي ذي تأثير فهناك على الأقل مرحلتان نقديتان مختلفتان تعملان معاً: تلك التـي تعود إلى المترجم أي التفسير الذي تمثله نسخة سييرز وتلك التـي تعود إلى المدرس التـي تمثلها محاولته لإعادة بناء “عالم دانتي الشعري” عن طريق “عشر محاضرات تحضيرية مخصصة لتغطية الفجوات التاريخية والثقافية بيننا وبين دانتي ولإنشاء أبعاد نقدية تمكننا من تفسير القصيدة من خلالها”. 155
تكمن المشكلة في عدم استطاعة الترجمة أو المحاضرة “سد” هذه “الثغرات”. فرغم محاولة المترجم إزالة كل الحواجز بين الطالب والنص الإيطالي فهو يعتقد (وبشكل يتعارض مع ما يفعله) أن “الكوميديا الإلهية لا تحتاج إلى وسيط الآن أكثر من أي وقت مضى، إذا أردنا أن نتفادى القراءات التبسيطية والمتعارضة مع الوقت التاريخي الذي كتب فيه النص” 155 وهذا التدخل يجعل من المحتم وجود حاجز آخر: فهي تعكس الدراسات النقدية الحديثة لقصيدة دانتي وحضارة إيطاليا في العصور الوسطى، أي أخر ما كتب عن الموضوع “أو الرأي النقدي الحديث، على الأقل في أمريكا الشمالية” 156. فالقراءات في هذه المادة لا يمكنها تفادي التعارضات الناتجة عن الاختلاف مع زمن النص الأصلي و”التشويهات” الحاصلة أي “الغموض” الذي قد لا يوجد في النص الأصلي لأن هذه القرارات مبينة على ترجمة جرت في إنجلترا ونشرت في الأربعينات من القرن العشرين عبر سلسلة من الكتب الموجهة لعامة الناس، (كلاسيكيات بنغوين) والتي استخدمت في صفوف الجامعات الكندية في أواخر السبعينات من القرن العشرين.
فعندما لا يقوم المدرس بتعليم الطلاب قيمة النص يصبح المدرس مثالاً لما قاله جاك دريدا في مقولته أن الترجمة “مشكلة سياسية، مؤسساتية جامعية: فهي كالتدريس في شكله التقليدي (وربما في كل أشكاله) لها وضعها الأمثل الذي يأخذ شكلاً يُغيب ملامح اللغة عن طريق الترجمة المتكررة” (دريدا، 93، 94). وطرائق التدريس الحالية تتبنى ضمنياً فكرة الترجمة على أنها وسيلة تواصل لا تأثير للغة عليها رغم أنه لا يمكن وجود ترجمة دون لغة، كما يقول دريدا عن وسيلة التواصل هذه إنه “يحكمها النموذج الكلاسيكي الذي يقول إنها لا تمتلك المقدرة على نقل الصوت أو المقدرة على تقنين المعاني المتعددة” 93. لكن التفكير في الترجمة كعملية “نشر” أي إطلاق للمعاني المختلفة التـي تنتج عن تغيير في اللغات سيثير مشكلة سياسية: لأن هذا يطرح للمساءلة موضوع توزيع السلطة في الصف بسبب فضحه للأوضاع اللغوية الثقافية التـي تعقد تفسيرات المدرس. فدراسة المعاني التـي تضعها ترجمة سييرز الإنجليزية لنص دانتي الإيطالي سيضعف من السلطة التفسيرية للمدرس الذي يُدرس على أساس يقول إن قراءاته صحيحية أو كافية للنص الإيطالي رغم أنه قد تشبع بالدراسات الأكاديمية الحديثة واستعمالات الطلاب للترجمة. ورغم أن مقالة المدرس الآنف الذكر تكشف عن إدراكه وجود تواصل غير متوقع للمعاني في عملية الترجمة وأن نسبة النقصان أو الزيادة تحدث بين نصوص اللغتين الأصل والهدف فإنه في تدريسه يفترض أن تغلب على هذه النسبة وأن تفسيراته هي في الواقع شفافة باللغة الإنجليزية للنص الإيطالي.
ولكن ما تم حفظه هنا هو السلطة: سلطة تفسيرات المدرس وسلطة اللغة التـي استعملت أي الإنجليزية. فكما يلاحظ دريدا فإن الفكرة السائدة في المجتمع الجامعي عما يمكن أن يترجم يحيد اللغة الوطنية (94) أي أن لغة التدريس ليست لغة محايدة في عرضها لنصوص أجنبية لكنها محلية ومرتبطة بالأقطار المتكامة بالإنجليزية. وتغييب موضوع الترجمة في الصف يخفي دون شك القيم الحضارية الإنجليزية والأمريكية المغروسة في النص الأجنبي وفي الوقت نفسه يعامل اللغة الإنجليزية وكأنها وعاء شفاف يحمل الحقيقة الخالصة وهذا يشجع نظرة محلية لغوية ذات آفاق ضيقة لدرجة أنه يمكن القول إن هذا يشجع وجود موقف ثقافي قومي. ويحدث هذا في الغالب في مراد الإنسانيات فمن الممكن أن تستخدم ترجمة “ثقة” النص الأجنبي في خدمة أهداف محلية. فالدفاع عن الكتب العظمى على سبيل المثال افترض في كثير من الأحيان تواصلاً بين هذه الكتب والثقافة الوطنية البريطانية أو الأمريكية وتجاهل في الوقت نفسه فروقاً ثقافية وتاريخية هامة من ضمنها فروق أتت عن طريق الترجمة. فتقرير وليام بنيت الذي أثار ضجة حول تدريس الإنسانيات في الولايات المتحدة يمكن أن يأخذ كمثال: النصوص الثقة للأدب والفلسفة الأوروبية يجب أن تُشكل “الجزء الأساسي من مناهج الجامعات الأمريكية “على حد قوله “لأن الأمريكيين جزء من نتاج الحضارة الغربية”. ورغم أن الطلاب في المواد الأساسية لا يستطيعون قراءة اللغات الغربية التـي كتبت بها أكثر هذه النصوص (بينت 21). ويوضح جون جيلوري John Guillory أن ترجمة الأعمال الكلاسيكية للغة المترجم العادية يعد تدعيماً مؤسساتياً قوياً للتتابع الثقافي الخيالي المزعوم فهي تؤكد خطط المحليين بالسماح لهم بمصادرة نصوص لغة أحنبية (جيلوري43 ). وعندما يُعتم على موضوع الترجمة أثناء تدريس النصوص المترجمة تعطى لغة الترجمة وثقافتها قيمة أعلى وتبدو وكأنها تعبر عن حقيقة النص الأجنبي بينا هي في الواقه إعادة بناء لصورة كُيفت لتلائم ما يفهم محلياً وما له أهمية محلية.
وقد يساعد منهج تعليمي يشمل أدباً مترجماً الطلاب على تعلم القدرة على نقد النفس ونقد فكر ثقافي متحيز لنفسه ضد غيره عن طريق توجيه الانتباه إلى أهمية المكان في النصوص وفي تفسيراتها فالترجمات مفهومة دائماً (إن لم تكن مصنوعة خصيصاً لهم) من جماعات ثقافية معينة في حقبة تاريخية معينة. وتغييب الترجمة يجعل من الأفكار والأشكال تبدو وكأنها لا تعود إلى مكان معين بل إنها فلتت من التاريخ وسمت على الفروق اللغوية والثقافية التـي أوجبت ترجمة هذه النصوص في بادىء الأمر بل وتفسيرها في داخل الصفوف المدرسية أيضاً. فالجهد الذي يبذل لإعادة بناء الحقبة التاريخية التـي أنتج فيها النص الأجنبي، ولخلق البيئة التاريخية للتفسير لا تعوض عن فقد التاريخ كعملية معقدة بل تزيد من تعقيدها: فيشجع الطلاب لرؤية تفسيراتهم التاريخية وكأنها موجودة في النصوص عوض أن تكون قد أوجدت عن طريق خطابات الترجمة وطرق النقد التـي تعود إلى القيم الحضارية لأوقات مختلفة لاحقة. ويتولد لذلك عند الطلاب مفهوم لتفسير الحقيقة وكأنها تنبع عن متابعة كافية للنص متجاهلين الواقع أي أنهم يخلقون هذه الحقيقة عن طريق اختياراتهم وتوليفهم للشواهد النصية والبحث التاريخي وبهذا تكون تفسيراتهم وتأخذ شكلها عن طريق الضوابط اللغوية والحضارية، التـي تتضمن اعتمادهم على الترجمة. فإن علم الطلاب أن نصاً ما نص مترجم واستخدمت هذه المعرفة ضمن عملية التفسير الصفية فيمكن لهذا أن يعلم الطلاب أن طرقهم النقدية محدودة ومؤقتة وتوجد في تاريخ متغير في وضع ثقافي محدد ضمن منهج معين وفي لغة محددة. وبمعرفتهم بوجود هذه الحدود تبدو لهم الاحتمالات المختلفة لفهم النص الأجنبي والطرق المختلفة في فهم موقعهم في تاريخهم الحضاري.
ومثل هذه الطرائق التدريسية ستحتم بالطبع مراجعة المواد والمناهج والكتب الثقة والأنماط الدراسية. على كل حال فإن الترجمات تصبح جزءاً من القراءات المطلوبة لأن النصوص الأجنبية الأصلية تعتبر ذات قيمة عالية وهذا قد لا يعود لقيمتها ذاتها رغم أن بعض الترجمات تختار دون شك قبل ترجمات أخرى حسب نظم وأحكام مختلفة. فالكلام عن موضوع الترجمة في الصف التدريسي يجعل من هذا التقييم معضلاً لأنه يحتاج إلى نظرة ذات تركيزين مختلفين. فيجب أن يأخذ بعين الاعتبار النص الأجنبي وحضارته بالإضافة إلى نص وحضارة الترجمة. ومن هنا فعلى المدرس أن يستبدل نصوصاً ثقة وأن يواجه مفهوم ترجمات ثقة, وعليه أن يراجع المناهج ويعدل نسبة استخدام
بالتوفيق والنجاح
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى